عقول العصافير

أحلام العصافير

عندما قال شاعر الإسلام حسان بن ثابت رضي الله عنه

"لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عظمٍ…جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ"،

كان يقصد بها هجاء القوم وذمهم فهم لهم أجسام قوية وعظيمة وعقولهم صغيره كعقول العصافير كناية عن ضعفها وسفهها. ولازال الكثير من الناس إذا أراد أن يشبه أحدهم بضعف قواه العقلية وعدم قدرته على التفكير السليم واتخاذ القرارات الصحيحة بأن لديه عقل العصافير.

العصافير هي نوع من أنواع الطيور، والذي سيدهشك أن هذه الطيور لديها تركيب دماغي مشابه جدا للتركيب الدماغي الإنساني ولكن على شكل مصغر، ومايثير الدهشة أكثر أن هذه الأدمغة لم تكن لتوجد فقط للزينة في رؤوس هذه الطيور .

الموضوع من الناحية العلمية لديه العديد من التفرعات فلقد افنى بعض العلماء المتخصصين في علم الطيور حياتهم للتعرف على مستوى الذكاء الاجتماعي التي تتمتع به هذه الطيور . أعرف أنك الآن شُغلت بمصطلح "الذكاء الاجتماعي" وهو درجة تكيف الكائن الحي مع محيطه والإدراك والتعلم من التجربة والخطأ" وهذا التعريف في ابسط صورة.

خذ الغراب مثلا فهو يضرب فيه المثل بحدة ذكاءه وقدراته تصل إلى حد حل المسائل والأحاجي وصناعة الأدوات التي تساعده على آداء مهام معينة. وهذا مارصده عالم البيئة النيوزلندي "غايفن هانت" عندما شاهد الغراب وهو يصنع أداة حادة للصيد من ورق الباندانوس لاستخدامها في مهمة الصيد.

الطيور تمتلك عقولا ومتناسبة جدا مع أحجامها وصممت صغيرة وخفيفة لكيلا تعيق مهمة الطيران، واذا بقينا مع الغراب سنجد أن وزن دماغه 14.5 غرام ويمثل 1.3% من كتلة جسمه ولو قارناها مع الشخص البالغ الذي يزن70 كيلو غرام فلديه دماغ يزن 1.4 كيلوجرام ويمثل 2% من كتلة الجسم. سنرى أن النسب متقاربه جدا.

عقول الطيور ليست صغيرة ولديها القدرة على اظهار العواطف (الخوف، الغيرة، الغضب، الحب) والتعبير عنها بطريقتها، وفي عام 1872 كتب تشارلز داروين في كتابه "التعبير عن العواطف عند الانسان والحيوان" أن الحيوانات تعبر عن الغضب، لكن ماذا عن المشاعر؟

أعلم أنه اختلط عليك الأمر قليلا، وذلك لأننا نستخدم كلمة العواطف والمشاعر في لغتنا العادية على أنهما مترادفان، ولكن العواطف وكما يعرفها عالم الأعصاب انتونيو داماسيو من جامعة كاليفورينا " هي مجموعة من الأفعال وهناك أنواع عديدة من الكائنات لديها عواطف، غير أننا لانستطيع التأكد من أنها تشعر بتلك العواطف" بعبارة أخرى العواطف هي استجابة الجسم للأحداث والمثيرات الخارجية، أما المشاعر فهي الإحساس الذاتي بتلك العواطف. وعلى سبيل المثال إذا سمعت أخبارا سيئة قد يرتفع ضغط دمك وقد يهبط معدل تنفسك بحدة وهذه هي استجابة الجسم العاطفية ولكن ليس من الضروري أن تشعر بالحزن.

لم تصل الدراسات حتى الآن لاكتشاف هل لدى الطيور مشاعر ام لا؟ ولكن أدمغتها مجهزة لذلك وتحتوي على القشرة الدماغية الموجودة لدى الثدييات والمسؤولة عن التفكير المتطور.

يقول الله تعالى واصفا الدواب والطيور كأمة من الأمم لها نظام محكم فقال: (ومَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) [الأنعام: 38].

وأنها من المسبحات لله تعالى تقوم بوظيفة التسبيح والتعظيم له تعالى. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [النور: 41]

ألم يذكر الهدهد في القرآن محدثا سليمان ومعترضا على ملكة سبأ التي اتخذت الشمس آلها، فمن يا ترى كان يمتلك عقلا راشدا مميزا بين الحق والباطل، الهدد أم قوم ملكة سبأ.   

قال الله تعالي {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)} ، ثم قال الهدهد متعجباً من عبادتهم للشمس وتركهم لعبادة الله عز وجل قائلاً {ألَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)}. [النمل]

ألم يكن الغراب أعقل من ابن ادم قابيل الذي قتل آخاه هابيل ولم يعرف كيف يواري سوأة أخيه " فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ " [المائدة :31]

الطيور لها عقول وتظهر عواطفها بكل سهولها وستظهر الدراسات أن لديها مشاعر، ولكن كل الأسف على هذا الإنسان الذي لديه عقل ولا يميز بين الحق والباطل ويظهر عواطفه بكل وقاحة ويتحكم بمشاعره ويكبت حزنه ويواري سعادته ويعالج غيرته ويرسل حسده.

فلنترك الطيور وعقولها ونراعي عقولنا ونحلق بها كالطيور ونستمتع بمشاعرنا ونتعلم منها كيف تعيش الحياة بفطرتها وكما خلقها الله، استمتع بالحب كطائر القرقف الذي يفضل الحب على الطعام ولا يتزوج إلى زوجة واحدة يعشقها ويعيش معها ولا يفارقها، تعلم من النحلة التي تفرق بين مئات الأنواع من الزهور وتختار الرحيق الذي يناسبها، تعلم من صديقنا الغراب كيف تكون سعادة الحياة في جماعات.

الاستخفاف بالآشياء آفة إذا تمكنت من الإنسان تمنعه من التقدم والتطور، الإنسان يتعلم من كل شيء حوله في هذه الحياة وذلك لأن الله خلق كل شيء ومصمم ليكون مسيرا وليس مخيرا ، أنت الوحيد في هذا الكون لديك الخيار وكل شيء حولك صنع لك ومن أجلك.

لو عادت الأيام بحسان بن ثابت لأعاد صياغة بيت شعره وقال:

 لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عظمٍ…جسمُ البغالِ ولا أحلامُ العصافيرِ