شمس الصباح تخرج من وراء الأفق وكأنها تتمطى وتتمدد
خجولة باردة بخدودها الحمراء، والأفق يحاول أن يمنعها من الانكشاف على الأرض
ويحاول أن يلفها بسحابة شفافة وقليل من الضباب. أحس سعيد مراد بدفيء تلك الأشعة
الصباحية في ذلك اليوم البارد وهو يركب سيارته المرسيدس الحمراء، يعشق مراد سعيد
ذو البشرة السمراء اللون الأحمر ويعتقد دائما هذا اللون من أساسيات الحياة، وهذه إحدى
فلسفاته ولم تكن الوحيدة فهو عبارة عن عالم من الفتوحات كما أطلق عليه صديقنا شمس
الدين الذي يحب التصوف.
أشعل سيجارته الملبارو الأحمر وضغط على مفتاح تشغل
المسجل ليسمع الشيخ عبدالباسط، كان سعيد يمضي في سيارته من غير كثير انتباه، وكأن
السيارة تعرف مكان عمله بالتحديد فقط يحرك المقود من فترة لأخرى متوخيا الحذر في
مفارق الطرق الرئيسية.
سعيد مراد لدية دكتوراه في الإعلام وعلم الاتصال، لدية
شخصية كاريزمية قوية وتبدو على مشيته الاناقة والرزانة والهدوء، لا تستطيع بأي حال
من الأحول الوقوف أمامه دون أن تظهر الاهتمام بشخصيته ومتابعة حركاته وسكناته. في
ذات المرات سألته
قلت له: عزيزي سعيد من أين أتيت بهذه الهيبة والكريزما
المشعة لشخصيتك
قال لي من غير تفكير عميق: السلك الدبلوماسي ياصديقي
قلت له باندهاش: السلك الدبلوماسي أين ومتى؟ وأنت تعمل
محررا للأخبار وموظفا عاديا.
قال لي هو يحاول الانتهاء من سيجارته التي قد انهاها
ورماها تحت قدميه وضغط عليها بقدمه اليمنى مطفأ لهبها وكأنه يطفئ شيئا قديما قد أيقظته
في داخلة بسؤالي.
نعم ياصديقي كنت دخلت السلك الدبلوماسي لعدة سنوات وخرجت
منه بطوعي ولم أحتمل ما يحصل في كواليس السياسة.
تنهد قليلا وتابع الحديث
أن تعيش محررا للأخبار خير لك أن تكون أنت الخبر.
وضحك بصورة مفاجأة وربت على كتفي وقال هذه احدى
الفتوحات، على راي صديقنا شمس الدين.
الأوراق التي يعمل بها سعيد مراد عالية السرية والأخبار
التي يستلها من كافة المواقع الإخبارية المطبوعة والإلكترونية تصل لأعلى المستويات
في البلاد، على درجة عالية من الأمانة والمصداقية وهذه إحدى فتوحاته، كما أنه لا
يثق في الناس أبدا، وكان يقول لي دائما
ياصديقي أي شخص خائن حتى تثبت أمانته.
فتوحاته ابدا لم تأت من فراغ ، أمضى ستون سنة من عمره
وقضى منها أربعون سنه في القرن العشرين وهو الان مضى عليه عشرون عاما في القرن
الواحد والعشرون، هذا ما قاله لي بالحرف الواحد عندما سالته عن عمره.
فعلا لديه فتوحات كيف له أن يأتي بهذه الفلسفة ليعبر عن
عمره، وانا لدي فضول المعرفة فسألته بلهفة ماذا يعني أن تعيش في قرنين؟
قال لي يعني ذلك أنك تعيش حالة الانفصام القرنية، فكل
قرن عندما ينتهي يكون قد شاخ ويمضي رتيبا سهلا وقوته ضعفت جدا وينتهي بمخاض عسير
ليلد القرن الذي يليه قرنا قتيا شبقا يحمل في طياته عواصف التغيير وبشكل أسرع من
القرن الذي سبقه، فتكون أنت في حالة انفصام قرنية لا تنجو منها إلا بحالة واحدة أن
تتنكر لكل سنواتك التي قضيتها في ذلك القرن وتبدأ من جديد.
فقلت له في حالتك هذه يكون عمرك عشرون عاما فقط.
قال لي: نعم وهنا الخطر...خطر الانفصام، فلا أنت تستطيع
العيش في الماضي ولا تستطيع اللهاث خلف الحاضر.
في تلك الليلة التي كان فيها مقبل على تحرير الأخبار
وجمعها ورصدها، قرا خبرا مهما حول تاريخ بداية الحركات الانفصالية التي بدأت
نشاطها ضد الولايات المتحدة منذ عام 1996م، حرر هذا الخبر وطبعه وجعله في مكتبه
وكان حريصا جدا على توثق عمله ولا يأمن لأي أحد معه في المكتب.
صديقه شمس الدين سيأتي بعد قليل وكانت مهمته التأكد من
الخبر وإرساله إلى المسؤولين. عاد سعيد مراد إلى بيته الساعة الثالثة صباحا ولك
يكن لديه هم إلا النوم، ماهي إلا دقائق حتى غلبه النوم ولم يكمل كوب الشاي الذي
يده، ودخل في نوم عميق.
رن جرس التلفون عدة مرات حتى استيقظ سعيد مفزوعا، فنظر
في شاشة الهاتف فقرا "المكتب يتصل بك" استغفر ريه عدة مرات ومتأففا
ومستعيذا بالله من الشيطان الرجيم.
ضغط على زر الإجابة وقال بهدوء مصطنع: مرحبا
جاءه صوت من الطرف الثاني وهو يلهث وبعصبية: ياسعيد أنت
مطلوب حالا وعاجلا للإدارة.
لم يجب سعيد مراد وترك للمتصل حرية البقاء على الهاتف أو
إنهاء المكالمة، حتى شعر سكرتير المدير بأن لحظة صمت طويله سادت الاتصال ولم تصله
إجابة الدكتور سعيد مراد ، فأعاد عليه يادكتور هل تسمعني .
لم يظهر على الدكتور سعيد أي انزعاج عندما دخل على مكتب
المدير، وجلس بهدوء تام كما تعود في السلك الدبلوماسي. وكنت عندما أساله عن هذا
الهدوء الذي لا يفارقه حتى في أحلك الظروف. كان يقول "تعامل مع مواقف الحياة
كما تتعامل مع الحيوانات فإذا أنت ركضت خوفا منها لحقت بك وأهلكتك وإن وقفت صامد
سوف تصغر وتذبل وتترك وشأنك"
صرخ المدير قائلا للدكتور سعيد أنت متهم بخيانة الأمانة
وستحول إلى التحقيق، فأنت منذ يومك الأول وانت تدعي أنك تفهم كل شيء وتعلم كل شيء
.
قال له الدكتور سعيد : فهمنا الجزء الأول أنني محول
للتحقيق بتهمة الخيانة والتي لا أعرف ماهي. ولكن ماعلاقة الفهم والمعرفة بتهمتي؟
بهت المدير من طريقة حديثه وشعر بان وقع في المصيدة،
فهذا الكلام واضح فيه التحيز ضد الدكتور سعيد وكأن المدير قد وجد طريقا ليخرج ما
في قلبه نحوه.
ولكن فتوحات الدكتور سعيد لم تكن عادية، وكان يرى بعين
المعرفة التي قضى معها ستون عاما في الكتب والكتابة والعلم. لم تكون فتوحات
الدكتور سعيد بالتدليس والإخبار بالغيب. ولم يرتدي عباءة الدين ليدخل سمومه
وأهواءه الشخصية.
زاد صراخ المدير ونادى على السكرتير من الخارج، وقال:
دعهم يدخلون.
وماهي إلا لحظات ودخل على المكتب اثنان من الشرطة ولهم
قائد وقيدوه، وجلوا يديه خلف ظهره. واقتادوه أمامهم وهو لم يفقد من هدوءه شيء.
جلس المحقق سلطان أمامه كالجبل فارع الطول ولديه عينان
واسعتان ووجه طويل ونحيف له ذقن وشارب خفيفان، وهو بكامل زيه العسكري.
قال : يادكتور سعيد أنت متهم بانك خائن للأمانة؟
أجاب الدكتور : وانا قبلت الاتهام .. ولكن هل يحق لي ان
أعرف في ماذا؟
قال المحقق سلطان : التهمة بانك تحرر اخبار مضللة
للمسؤولين.
أجاب الدكتور سعيد : نعم وهل لديكم أدله على ذلك.
صرخ المحقق سلطان أنا من يسأل هنا وليس انت ، عليك
الإجابة فقط.
وأكمل نعم لدينا الدليل . ورمى له قصاصة مكتوب عليها
" بداية الحركات الانفصالية التي بدأت نشاطها ضد الولايات المتحدة منذ عام 1969م،"
الست أنت من حرر هذا الخبر ،
أجاب بعدم فهم لما يحصل : نعم أنا
قال المحقق : ولماذا لم تراعي الدقة في نقل هذا الخبر ؟
ألا تعرف من يطلع على هذه الأخبار ..الم توقع على اتفاقية الأمانة وسياسة والعمل
في مؤسسة العلم والمعرفة.
قال الدكتور سعيد بهدوء : نعم
تابع المحقق : إذا مالذي يحصل؟
أجاب الدكتور سعيد : أنا أبدا لم ارتكب هذه الحماقة ولم
أضلل أحد.
تابع الدكتور باهتمام ، التاريخ المذكور في الخبر هو
تاريخ قد تم تغييره بعد تحرير الخبر .
قال المحقق سلطان : كيف وأنت المسؤول عن تحرير الأخبار .
قال الدكتور سعيد : نعم ولكن من يرسلها هو صديقي في
المكتب شمس الدين ، وهو آخر شخص يرى الخبر بشكل النهائي قبل إرساله للمسؤولين.
أجاب الضابط بحنق : اشرح أكثر يادكتور لم أعد احتمل هذا
اللغز المحير.
تابع الدكتور سعيد : عندما انهي الخير ، أرسلها إلى
الموظف شمس الدين عبر برنامج تحرير الأخبار ، ثم يراجعه من لغويا ويطابقه مع
النسخة الأخرى بلغته الأصلية ، ثم يضغط على اعتماد ليرسله للمسؤولين. وعلى مايدو
أن شمس الدين هو الذي غير التاريخ لأن تاريخ الخبر ليس كما كتب فقد كان 1996.
أجاب المحقق سلطان : وكيف تثبت ذلك
أجاب الدكتور سعيد: نعم فأنا عادة بعد تحرير الخبر أطبعه
وأحتفظ بنسخة في مكتبي، ونستطيع من خلال قسم تقنية المعلومات أن تتأكد من موعد
طباعة الخبر وبين موعد إرسال الخبر .
قال المحقق سلطان بصوت عالي : ياشرطي أطلب لي رئيس قسم
الكمبيوتر في مؤسسة العلم والمعرفة.
كنت أنا على الطرف الثاني من الخط ،
وباختصار شديد أخبرني المحقق سلطان أن الدكتور سعيد
محتجز لديهم ولا يكون خلاصه إلا من خلال تقرير من خلال قسم الكمبيوتر لديهم بأنه
برئ من تغيير التاريخ والتلاعب بالأخبار وخيانة الأمانه.
أغلق المحقق الهاتف ، وبقيت صامتا لفترة وتذكرت احدى
فتوحاته :بان الشخص خائن حتى تثبت أمانته" ، فقلت في نفسي سنرى بادكتور وأنت
صاحب هذه الفلسفة هل تجري عليك ام على غيرك.
أخرجت تقرير سريعا من يوضح أن الدكتور سعيد قد طبع
أوراقه الساعة 2:25 صباحا واحتفظ
فيها بمكتبه ، كما أنه قد أرسل الخبر إلى
شمس الدين الساعة 2:23 صباحا، وقد ظهر انه قد خرج من المؤسسة الساعة 2:30 ، وقد تم
اجراء تغيير على الخبر الساعة 3:00 صباحا.
الأمر الذي سيقلب موازين الاتهامات نحو شمس الدين الذي
بدا جليا أنه قد تآمر عليه هو ومديره ، لوضعه في موقف محرج ورفضه من المؤسسة.
مساء كنت أقف أمام مكتب المحقق سلطان وبيدي التقرير الذي
طلبه.
أجلسني وبدا يقرا بالتقرير ، وعندها ارسل يطلب الدكتور
سعيد بشكل عاجل . دخل الدكتور وكان بحالة رثه وصعبه وهش لي وبش عندما رآني ،
وشكرني على سرعة الاستجابة واحضار التقرير.
أمر المحقق سلطان بإحضار شمس الدين ومدير مؤسسة العلوم
والمعرفة، للتحقيق معهم ، واعتذر المحقق من الدكتور سعيد ، وخرجنا للتو واللحظة من
مركز الشرطة وكنت ممسكا بيد الدكتور قلقا عليه بعد الأسبوع الذي قضاه في مركز
الشرطة.
نظر إلى وقال : هذه الفتوحات التي يدفع ثمنها أصحابها
دائما من كرامتهم وايامهم وأعمارهم.
الفتوحات باصديقي ، لن تزدهر وتتفتح إلا إذا سقيت نفسك
بماء العلم وسلطت عليها شمس الحقائق وزرعتها في تراب الخشية والإخلاص. سترى
فتوحاتك تكبر كل يوم ولو كانت في أرض قاحلة.
وسام مصلح
15-02-2018
2 تعليقات
راااااائع واروع مدونه زرتها في حياتي ابداااااع لاتوصف اتمنى تستمر....
ردحذفالمدونة مررررررررررررره فنانه❣️❣️
ردحذفاستمر لا توقف🙃