عندما يكون الوعظ للذئاب
إن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ المجرد وحده، فلابد من مراعاة الطبيعة التي جبلت عليها النفس البشرية. إن دأب الواعظين عندنا أن يزكوا الطغاة والمترفين يفعلون ما يشاؤون ويصبون جل اهتمامهم على الفقراء والمساكين من الناس فيبحثون عن زلاتهم وينغصون عليهم معيشتهم وينذرونهم بالويل والثبور في الدنيا والآخرة. ذلك لأن الوعاظ لايزالون يعيشون على فضلات موائد الأغنياء والطغاة. ولقد وجدَ الطغاة بالواعظين خير معين لهم على إلهاء رعاياهم وتخديرهم. وانشغل الناس بوعظ بعضهم بعضا فنسوا بذلك ماحل بهم على أيدي الطغاة من ظلم.
إن الإنسان له عقلين ظاهر وباطن، وعند الوعظ لا تؤثر إلا في العقل الظاهر فقط أما عقله الباطن فهو لا يفهم من مواعظنا ونصائحنا شيئا، إذ هو مشغول بما يوحي العرف الاجتماعي إليه من قيم واعتبارات.
يقول الجاحظ معلقا على قول الحجاج ان أهل العراق أهل شقاق ونفاق، "العلة في عصيان أهل العراق أنهم أهل نظر وذوو نظرة ثاقبة ومع الفطنة والنظر يكون البحث والتنقيب في الرجال، أما أهل الشام ذوو بلادة وتقليد" ويعلق علي الوردي ويقول هذا التعليل لا يقره علم الاجتماع الحديث. ويرجع الوردي العلة إلى السادة الحكام الذين حكموا في كلا البلدين ففي العراق سادت الطبقة الحاكمة من المهاجرين والأنصار أما الشام فهم الأمويين القرشيين الذين كانوا يسودون مكة في الجاهلية، فالعراق كان قويا بالوعظ الديني أما الشام فكانت القيم البدوية لازالت مسيطرة فلم يحدث لهم صراع نفسي بين الإسلام والبداوة.
ويحكى في الأمثال أن رجلا أخذ ذئبا فجعل يعظه ويقول له "إياك وأخذ أغنام الناس لئلا تعاقب" والذئب يقول له "خفف يا أخي واختصر فهناك قطيع من الغنم أخشى أن يفوتني" وهذا المثل يضرب لمن يريد أن يعظ إنسانا بأمر يخالف الطبيعة.
مهنة الوعظ
إن الواعظين ازدادوا في ظل الدولة العباسية وكان الواعظ يعطى على مقدار ما يتحذلق به من جيد اللفظ وبلاغة الأسلوب. ويصف ابن جبير حال الوعاظ في بغداد "ولا جرم أن لهم في طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالي ما يحط من أوزارهم ويسحب ذيل العفو عن سوء آثارهم ويمنع القارعة الصماء أن تحل بدارهم ".ولعل الناس لا يبالون أن ينهب الخليفة من أموالهم ما يشاء مادام يغمى عليه من خشية الله ويبني المساجد ويغدق النعم على الواعظين.
إن طريق الازدواجية يهون الأمر على الناس فلكل واحد قلبان، يسمعون الموعظة بأحدهما ويسمعون رنين النهود والنقود بالآخر. يذكر أن نظام الملك الوزير السلجوقي في عهد ملك شاه كان يصرف على المساجد والمدارس والتكايا أموالا طائلة فلامه ملك شاه على ذلك، فأجابه نظام الملك بجواب مقنع ومفحم "أنت يامولاي منشغل بلذاتك ومنهمك بشهواتك وذنوبك صاعدة أكثر من طاعاتك، وجيوشك مغرقون بالمعاصي والملاهي، فأقمت لهم جيش الليل يدعون الله لكم ويصلون ويذكرون وبهم تمطرون وترزقون".
فمن المفاهيم الخاطئة أن للفرد أن يعمل ما يشاء وينهب ما يشاء ولكي يرضي الله يعطي جزء مما نهب إلى العباد والزهاد ليتوبوا عنه أمام الله. فكلما كان الظلم الاجتماعي أش كان بناء المساجد وتشجيع الوعظ أكثر.
لقد صار الوعظ مهنة تدر على صاحبها الأموال وتمنحه مركزا اجتماعيا لا بأس به وأخذ يحترف الوعظ كل من فشل في الحصول على مهنة أخرى. لابد عند الوعظ أن تقدم القدوة المعتدلة السهلة التي يستطيع الإنسان أن يصل إليها ويحفزه على العمل وتبعث على التفاؤل. أما القدوة العالية المرتفعة التي لا يستطيع الوصول إليها فمن الصعوبة أن تنقل الإنسان إلى العمل والإنجاز.
عندما يكون الوعظ كلاما دون عمل!
إن طبيعة الإنسان يجري وراء الشهوة جريا لا يقف عند حد، وهو كلما ازدادت شهرته ازداد سعيه في سبيل تدعيم الشهرة حرصا عليها. والزعماء كالبشر ليسوا ملاكا، فهم يبحثون عن الشهرة أينما وجدت ويظن المغفلون بأن الزعيم مخلص بطبيعته ومجبول عليها. عن مشكلة مجتمعنا يريد زعيما ولكن لا يملكون نزعة التقدير اللازمة لظهور مثل ذلك الزعيم، والوعظيين يزيدون من هذا الشعور فلقدد حددوا مقياسا نادرا وصعبا للأخلاق التي يجب أن يتحلى بها الزعماء، فأي واحد يتصدر للإصلاح يسلقوه الناس بألسنة حداد فيميتون فيه نزعة النبوغ، وهذه صبغة المجتمع المزدوج. فالمجتمع المزدوج يقلل من ظهور الزعماء الأقوياء لما يقابله من انتقاد الناس والجدل والشغب وكل ذلك لسبب الوعظ الذي جعلهم أولي نظرة وتدقيق وتفكير أفلاطوني، فهم يجدون عيبا لكل رجل يظهر بينهم مهما كان صالحا. فالزعيم لا يعتمد على موهبته فقط فهو بحاجة إلى تقدير وتشجيع الناس.
إن الأمة لا تستطيع ان تخلق من شخص تافه زعيما، وكذلك لا يستطيع الشخص الموهوب ان يكون زعيما في أمة لا تقدره. إن الواعظين صنعوا لنا أنماطا من السلوك فوق متناول البشر وتركونا نركض وراءها من غير جدوى كمن يركض وراء السراب. يقول ميكا فيلي "لو خيرت بين ان تكون مهيبا ومكروها أو تكون محتقرا محبوبا، فالأسلم أن تكون مهابا بدلا من المحبة. فالناس لا يتورعون أن يؤذوا المحبوب.
ويتسائل علي الوردي ما الفرق بين النبلاء والمجرمين في المجتمع؟ ويقول إذا اتفقنا أن مصلحة الناس هي أولى وأعز مصلحة لدى الشخص فبذلك يتكافا النبيل والمجرم بأنهما جميعا عاشا وبدءا حياتهما كأي إنسان يبحث عن رزقه وكرامته ومصلحته. ولكن الظروف قد تجعل أحيانا مصلحة ذلك الإنسان الجيد متوافقة مع المصلحة العامة فينال كرامة وعزة ويتفانى هو بعد ذلك في خدمة مصالحه التي تبدو خدمة لمصلحة المجتمع، أما المجرم فقد شاءت الظروف أن تصطدم مصالحه مع مصالح المجتمع فبذلك التعارض يبدأ ذلك الشخص بزيادة مكتسباته في المجتمع بالطريقة الخاطئة.
ويأتي هنا مرة أخرى دور الوعاظ ويعملون عملا فادحا بأنهم يريدون إصلاح المجتمع بالكلام المجرد، وماعرفوا أن الأخلاق هي نتيجة للظروف النفسية والإجتماعية. فما رأيك لو رفعنا عن كاهل الناس الفقر والمشقة وجعلناهم يشعرون أن مصلحتهم مطلقة لمصلحة المجتمع لصاروا مواطنين صالحين. يؤكد توماس بين "إن الفقر ليتحدى كل فضيلة وسلام، لأنه يورث صاحبه درجة من الانحطاط والتذمر تكتسح امامها كل شيء ولايبقى إلا مبدأ واحد وهو "كن... اولا تكن".
عندما يكون تقدمنا برجعونا
يريد الواعظون ان يرجعوا بنا إلى صدر الإسلام ولاعزة لنا إلا باتباع نهجهم وطريقهم بحذافيرها، إن كل حركة اجتماعية لاتكاد تنجح حتى تفشل وهذه سنة الله في الخلق. يقول عمر رضي الله عنه " ألا إِنِّي قَدْ سَنَنْتُ الإِسْلامَ سِنَّ الْبَعِيرِ ، يَبْدَأُ فَيَكُونُ جَذَعًا ، ثُمَّ ثَنِيًّا ، ثُمَّ رَبَاعِيًّا ، ثُمَّ سَدِيسًا ، ثُمَّ بَازِلا ، فَهَلْ يُنْتَظَرُ بِالْبَازِلِ إِلا النُّقْصَانَ ، أَلا وَإِنَّ الإِسْلامَ قَدْ بَزَلَ ، أَلا وَإِنَّ قُرَيْشًا يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا مَالَ اللَّهِ مُغْوِيَاتٍ دُونَ عِبَادِهِ ، أَلا فَأَمَّا وَابْنُ الْخَطَّابِ حَيٌّ فَلا إِنِّي قَائِمٌ دُونَ شِعْبِ الْحَرَّةِ ، آخِذٌ بِحَلاقِيمِ قُرَيْشٍ وَحَجِزُهَا أَنْ يَتَهَافَتُوا فِي النَّارِ"، وكان النبي دائما يصرح بأن الإسلام سيعود غريبا كما بدا غريبا، وكان عليه الصلاة والسلام في آخر أيامه قلقا ولايأتيه النوم ويقول إن الفتن مقبلة كقطع الليل المظلم ، فلماذا هذا التشاؤم في آخر أيامه وهو المنتصر عليه الصلاة والسلام؟
إن وجود الغنى الفاحش بجانب الفقر المدقع في مجتمع واحد يؤدي إلى الانفجار عاجلا أو آجلا ومهما طلي هذا التفاوت في الثروة بطلاء من الدين أو الخلق أو الشرف.
إن ثورة أبو ذر الغفاري في عهد عثمان رضي الله عن الجميع، على طريقة توزيع المال على المسلمين وطريقة دفع الزكاة، ومالقيه في حياته من إبعاد وتشريد وكذلك بعد مماته من هجمة شرسة من قبل لجنة الفتاوي بالجامع الأزهر حيث أقروا أنه خارج عن جماعة المسلمين. وكذلك قال موسى جار الله أن عثمان أعلم من أبو ذر، وأكد على ذلك الأستاذ محب الدين الخطيب ويبرر فعل عثمان بأن المال في أيدي المسلمين قوة، وأن الزكاة عمل من العبادات لا يجبر الإنسان على عملها لأنها امتحان من الله.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما ازداد رجل من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا، ولا كثر أتباعه إلا كثرت شياطينه ولا كثر ماله إلا اشتد حسابه". إن مسؤولية الظلم لا تقع على عاتق الظالم وحده إنما تقع على عاتق الذين أعطوه المفتاح وسهلوا له فتح الباب. يقول الله تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)، فنحن لا نتوقع إيمانا صحيحا من معوز وكذلك صاحب ثروة. وفي قول للقرطبي عن آية الكنز (َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)) أن هذه الآية نزلت في أوائل الإسلام ولما كان من أمر تأسيس الإسلام، أما وقد تعدلت أموال وحسنت بعد ذلك فلا مانع من الكنز. ويظن القرطبي أن المال يذهب للمؤمنين الفاتحين حيث أنهم قد أحسنوا الإسلام، وما علم أن الدنيا إذا فتحت على أحدهم حتى يضعف إيمانه وإخلاصه. ومن المستغرب أن القرطبي كيف نسخ ىية من القرآن محمة، وأبطل حكمها بحجة تغيير الظروف.
عبدالله بن سبأ :
يقول الأديب طه حسين أن عبدالله بن سبأ هو شخصية وهمية ليس لها وجود في التاريخ الإسلامي وتم اختراعها من قبل مجموعة من الأشخاص لحاجة في أنفسهم. ويقول علي الوردي عن هذه الشخصية قد تم اختراعها من قبل الأغنياء الذين كانت الثورة موجهه ضدهم. يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم "عن الله يبعث لهذه الأمة عند رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" فالنبي يؤكد على أن الدين لا يستقيم مع الجمود وأن كتاب الله وحده لا يكفي لمنع الأمة من الانحراف فالنبي ينبأ بمجيء المجددين في أمته كل مائة عام. ويقول النبي عن أبو ذر (رحم الله أباذر يمشي وحده، يموت وحده، ويبعث وحده) وهو البدوي الوحيد الذي دخل الإسلام قبل الهجرة ويذكر عنه أنه كان يصلي قبل أن يلقى النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثين سنة دون أن يعرف أين القبلة، فكلما سأل قال "حيث وجهني الله".
ويظهر هنا مرة أخرى عمل الوعاظ حيث انهم عادة ما يركزون على أن رجال التاريخ الخيرين لا يبدو منهم إلا خيرا دائما وهذا يعاكس الواقع الإنساني، فالإنسان يحتوي على خير وشر. إن النزاع بين البشر ليس نزاعا بين الخير والشر كما يتوهم الوعاظ إنما هو بالأحرى نزاع بين اعتبارين مختلفين للخير. فكل فريق يرى الخير من جانبه ويتعصب له ويسأل الله أن يرزقه الشهادة في سبيله.
ويتسائل علي الوردي لو أن ابي جهل حالفه الحظ ونجا من معركة بدر وبقي إلى يوم الفتح فاسلم لصار من كبار الصحابة، فإن كثيرا ممن كانوا مع أبو جهل أسلموا بعد ذلك وصاروا علامة فارقة في التاريخ الإسلامي. فماذا لوأصيب أحدهم ومات في معركة بدر؟!!! هل فعلا أنهم صاروا أخيارا وتغير سلوكهم بمجرد دخولهم للإسلام؟!، يقول النبي عليه الصلاة والسلام (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام). إن قريش لم تحارب محمد من أجل دينها ولكن من أجل تجارتها ومكاسبها، وإلا ما تفسير ان تنهار أصنامهم في فتح مكة ولم يقيموا لذلك شأنا.
ومن غريب قول الكتاب أن عبد الله بن سبأ ما هو إلا عمار بن ياسر فهو محرض الناس على عثمان وقاتله، ويستند المؤلف على عدة حجج والتي يمكن تلخيصها بأن عمار كان دائم التحريض على سياسة عثمان المالية وعلى محاباته لأقربائه من قريش. ويذكر المؤلف الحالة النفسية لعمار لأنه تعرض للتعذيب في أول الدعوة من قبل قريش فهو لايكن لهم أي مودة كما أنه مايدعى من قبل قريش بابن السوداء، والعبد وذلك لأن أمه عبده وابوه يماني. وهذه الصفات تنطبق تماما على ابن سبأ.
وسام مصلح
0 تعليقات