نتغير ويكبر الوعي فينا مع الأيام وتصبح الأشياء الصغيرة كبيرة والكبيرة صغيرة، أذكر عندما كان يتوعدنا المعلم على الواجب المنزلي إذا لم نحضره غدا، ترتجف قلوبنا ولا نرى للنوم طعما، ونبقى مشدوهين من فرط الخوف والتفكير في نهار الغد الذي أصبح كابوسا في مخيلاتنا الصغيرة، وفي ذات الوقت كنا لا نعرف الخوف من الدنيا وما فيها من هموم وأحزان، كان كل همنا أن نجد متعتنا وأصدقائنا ونقضي الوقت باللعب بلا حسيب ولا رقيب ونعيش أحلامنا ولا نرى في الحياة إلا ساعتنا التي نحن فيها. فلماذا ضعفنا إلى هذا الحد؟! صارت لا تؤثر فينا الموعظة ولا تكترث قلوبنا للآخرة، قست القلوب وجفت الدموع في المحاجر، ما عادت تحزننا آهات المساكين، ولا رؤية الجائعين، قلوبنا لاهية وعقولنا ممتلأه بالمستقبل، مغلفة بالماضي، ولا مكان لحاضرنا فيها.
هذه ليست مقدمة لخطبة الجمعة، حتى في هذه لم نعد نستمتع بهذه الكلمات، جمود غريب يلف المكان، وجوه شاحبة، أفواه متثائبة، عقول شارده، محاصرين بجيش من الكراسي في الصف الأول والصف الأخير وفي نهايات الصفوف، تراهم كأنهم خرجوا من الأجداث فزعين فارين يتراكضون على بلوغ الركعة الأخيرة، حاملين مصلاهم في ايديهم ليضعوها على أقرب مخرج ليؤمنوا طريق العودة ولا يقعوا في فخ من يسارع ليصلي ركعتي السنة ويتمتع بمنظر المصلين وهم ينتظروه ليفرغ من صلاته. جبال من السيارات تراصت في منظر عشوائي غريب، لا يمت إلى انتظام صفوف المصلين بصلة، وكل حريص على أن يبقى مسار الهروب مفتوح، حتى لا يعلق بموسيقى الزامور الذي ستنطلق بعد قليل في حفل مهيب للخروج من المسجد.
لم تعد الأيام تعنينا إلا لنعدها حتى نصل آخرها، لأن آخرها فيه معاشنا، ومعاشنا ليس لنا، إنما سلمناه لتلك الحفنة من الأثرياء الذين استغلوا ضعفنا ولهاثنا نحو الاستهلاك وامتلاك الكماليات ليبنوا جبال ذهبهم وثرواتهم.
ضاعت حلاوة الأشياء وضاعت هيبتها، الملل في كل مكان ومن أي شيء، لا يسعدنا أي شيء ولا أي مكان، ونسينا أن نعيد الحياة لخلايا الإحساس في قلوبنا ونفك التجميد عنها، لكي ترسل إشارات إلى عقولنا لترك المستقبل حتى يأتي والماضي فقد فات ونملأ العقل بالحاضر الذي نحن فيه.
0 تعليقات