تختلف وظائف الكتابة وتتنوّع، في رواية "الحكاية الحزينة لماريا ماجدالينا" للروائي الجزائري عبد القادر حميدة (منشورات ضفاف / منشورات الاختلاف)، بين البداية والنهاية وما بينهما. ففي البداية، يوجّه حميد ريتشيكو، أحد رواة الرواية، رسالة إلى كاتب معروف مرفقة بحكاية سيدة أوروبية مجهولة هي ماريا ماجدالينا، الراوية الثانية، ويطلب إليه أن يكتب حكايتها لتصل إلى الناس، فتتّخذ الكتابة وظيفة الإعلام والتوصيل. وفي النهاية، يُسنِد الراوي الأوّل ظهره إلى جذع شجرة في مقبرة، ويبدأ بكتابة حكاية الراوية الثانية، في محاولةٍ منه لرفع الجحود المزمن الذي لحق بها بعد موتها، فتتّخذ الكتابة وظائف رفع الجحود، وإحياء الميت، ووضع الأمور في نصابها. وبين البداية والنهاية، تتّخذ الكتابة هذه الوظائف مجتمعة. يُضاف إليها إضاءة التاريخ، وتعرية الاستعمار، والربط بين الماضي الذي لا يمضي والحاضر الذي لا يحضر، وغيرها.
جدلية الظهور والاختفاء
ثمّة سلكان اثنان ينتظمان الأحداث، ويتعاقبان بانتظام في جدلية الظهور والاختفاء ما يشكّل جديلة الرواية. وعلى المسافة الزمنية الطويلة الفاصلة بينهما التي تنوف عن قرن ونيف، فهما يتقاطعان في نقاطٍ كثيرة، تتمظهر في التواصل بين الراويين، أو في رويهما الواقعة الواحدة من منظورين متكاملين، أو في تشابه ظروف تسميتهما.
السلك الأوّل معاصر يعود إلى العام 2007، يتألف من عشرين وحدة سردية، يقوم برويها حميد ريتشيكو الذي سُمّي باسمه الأوّل تيمّناً بأحد الأولياء، واطلقت عليه اسمه الثاني الذي يعني الملك الصغير الراوية الثانية تذكيراً بتحدّره من سلالة أبي عبدالله الصغير، آخر ملوك غرناطة. وهو مراسل يُوهم الآخرين بأنّه صحافيٌّ مهم، في محاولة منه لجذب الانتباه واصطياد البنات. وحين تفقد الصحافة أهميّتها، يتحوّل إلى كاتب قصة، ويقيم في غرفة علوية، على سطح مبنى، خلف معلم تاريخي، يتّخذ منها مكتباً ومكاناً للعزلة والأسرار الحميمة. وإذ يسمع بماريا دولوريس، ذات مرّة، ويرى طيف امرأة، سرعان ما يختفي، في حديقة المستشفى حيث يُسجّى جثمان صديقه القاص جلول بن يحيى، ويراه ثانيةً في المقبرة، ويقرأ صورتها في ألبوم صديقه القديم علاوة الفرانكوفوني وفي مجموعة الحاج زين، ويسمع صوتاً يهمس في أذنه بالاسبانية، خلال تشييع صديقه في مقبرة المجحودة، تُشكّل هذه الوقائع حافزاً له للكشف عن حقيقة هذه المرأة المجهولة، الميتة منذ قرنٍ ونيف، فينخرط في البحث عن قبرها وتقصّي أخبارها، ويدخل معها في حوارات، من موقع المصغي لها أو المتكلّم معها والمفكّر بصوتٍ عالٍ، في فضاءٍ غرائبي، يظهر فيه طيف المرأة مرّتين، ويحصل على صورتين مطابقتين لها. وترشده شجرة صنوبر إلى قبرها، ويتبادل الحديث معها، حتّى إذا ما تشكّلت لديه مادّة أوّلية كافية لكتابة حكايتها التي ترفع الجحود عنها، وتحييها بالكتابة، يبادر إلى ذلك بتشجيع من الشيخ عطية، صاحب القدرات الخارقة، الذي قصده، ذات يومٍ، يلتمس بركته في مواجهة حملةٍ أصولية، لترجمته "حكاية البيت" التي تشير إلى اليهود في الجزائر ودورهم. وهكذا، ما إن يغادر مقام الشيخ حتى يُيمِّم شطر القبرة، ويسند ظهره إلى شجرة، ويبدأ في الكتابة، حتى إذا ما انتهى من الحكاية، يقوم بإرسالها إلى روائي معروف ليعيد كتابتها، ويضع اسمه عليها، وينشرها بين الناس، الأمر الذي تشير إليه مقدّمة الرواية، ما يعني أن النص يبدأ من النهاية. وبذلك، نرى أن ما يرويه الراوي الأوّل يتمحور حول حكاية الراوية الثانية، وعملية انخراطه في البحث عن حقيقتها، تمهيداً لكتابتها، وإخراجها من الموت.
السلك الثاني تاريخي يعود إلى العام 1869، ويتألف من عشرين وحدة سردية بدوره، ويقوم برويه ماريا دولوريس، المرأة الميتة منذ قرنٍ ونصف قرن، وهي امرأة إسبانية أسرها جنود الأمير عبد القادر مع أختها، وقام بتزويجها من ابنه سيدي الشريف، وقد سمّتها أمّها ماريا ماجدالينا تيمّناً بمريم المجدلية، وهنا تتقاطع ظروف التسمية مع الراوي الأوّل من حيث التيمّن بالديني في أسماء الأبناء، حتّى إذا ما أسلمت بعد زواجها من خليفة الأمير، يسمّيها بفاطنة العلجة أي المرأة الجميلة، وبعد موتها يلقّبها الناس بالمجحودة بسبب ما تعرّضت له من جحود في حياتها بتهميش دورها، وفي مماتها بدفنها في قبر مجهول بعيداً من أفراد أسرتها.
شخصيات مثالية
من خلال هذا السلك، نطّلع على الدور المهم لزوجها "الخليفة" الذي قاوم المستعمر الفرنسي على طريقته، فبنى زاوية يستقبل فيها طلاب العلم وأصحاب الحاجات، واتّخذ من الديني قناعاً للسياسي، يقاوم به المستعمر. كان يظهر الولاء له ويضمر العداء، ويتقن المناورة، ويمتلك شخصية قوية ومعارف صوفية وفقهية ونحوية، ويُداني والده الأمير عبد القادر في إنسانيّته وبطولته وحنكته وشعره، وهو زوج محب، وأبٌ حنون. ولعلّ هذه الصفات هي التي جعلت الجنرال الفرنسي جوزف فانتيني يدسّ له السمّ، ويزعم أن قاتله هو بن حمزة الذي أغار على مدينة الجلفة العام 1864. وهكذا، يرسم الكاتب شخصية مثالية تجتمع فيها صفات القائد والمقاوم والسياسي والشيخ والإنسان في آن معاً.
ولم تكن شخصية ماريا المجحودة أقلّ مثالية من شخصية زوجها، فهذه المرأة الأسيرة الغريبة تحبّ زوجها، وتتّخذ منه أهلاً ووطناً، وتساعده في مقاومة الاستعمار، وتُسجَن معه، وتستشعر الأخطار قبل وقوعها، وتهتمّ بابنها الوحيد أحمد، وتُعدّه لخلافة والده، وتبعده حين تستشعر ما يتربّص بها من مكائد. وتتفهّم موقعها في مجتمع ديني محافظ، وتدفع ثمن مقاومتها الاستعمار في حياتها بدسّ السمّ لها من قاتل زوجها، وتدفع ثمن وجودها في مجتمع ذكوري منغلق على نفسه بدفنها في مقبرة مجهولة بعيداً من زوجها. وهكذا، تُظلم مرّتين اثنتين، مرّة من المستعمِر الذي يقوم بقتلها، ومرّةً من المستعمَر الذي يقوم بتجهيلها وجحد نضالها، حتّى إذا ما قُيِّظَ لها كتابة حكايتها، على يد حميد ريتشيكو، يتمّ رفع الجحود عنها بواسطة الكتابة.
وإذا كان الكاتب قد رسم صورة مثالية لشخصيّتين تاريخيّتين، فإنّ الصورة التي يرسمها للراوي الأوّل المعاصر، لم يكن فيها شيء من المثالية باستثناء عكوفه على البحث في قصة الراوية الثانية، وكتابة حكايتها، وتخلّيه عن حقّه في وضع اسمه عليها، حين عهد بها إلى الروائي المعروف/ المجهول. وفيما عدا ذلك، نحن إزاء شخصية واقعية، حيناً، وتحت ـ واقعية، حيناً آخر؛ تتمظهر الواقعية في أنّه يُوهِمُ الآخرين بأهمّيته، ويستدرج الأخريات إلى غرفته، ويُعاني الوحدة والاكتئاب، ويُهمل شكله، ويكثر من زيارة المقابر. وتتمظهر تحت الواقعية في تحدّثه إلى الموتى، وأطواره الغريبة، وتصديقه الخرافات، وإيمانه بالخوارق، وغيرها.
بدائية العالم المرجعي
من خلال هذين السلكين المتجادلين، يضيء عبد القادر حميدة العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر؛ فالأوّل يفعل فعله في الحاضر، والثاني يمكنه تصحيح أخطاء الأوّل. الأوّل يعيد نفسه بأشكالٍ مختلفة، والثاني يستطيع تكييف هذه الإعادة بما يوافق مصلحته. ومن خلال هذه العلاقة الجدلية، يلقي الكاتب الضوء على مرحلة الاستعمار الفرنسي للجزائر، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويستعيد جذور العلاقة بين العرب والغرب من خلال المرحلة الأندلسية في حقبتها الأخيرة. ويتناول العالم المرجعي البدائي الذي تُحيل إليه الأحداث، بما يستشري فيه من تحكّم المعتقدات الشعبية بأفراده، وإهمال المرافق التاريخية والسياحية، ومحو الوقائع التاريخية للمهزوم، واستبدالها بوقائع المنتصر. ولعل النقطة المضيئة في هذا العالم تتمثّل في الروح النضالية التي تسعى إلى تحرير الأرض من المستعمر، لكنّها تصطدم بعدم تحرّر الإنسان من الجهل، فتحرّر الإنسان شرطٌ لتحرير الأرض، الأمر الذي سيحدث في القرن العشرين، بعد الثورة الجزائرية.
المصدر : اندبندنت بالعربية
1 تعليقات
شكرا جزيلا لك ايها الصديق على نشر هذه القراءة الجميلة.
ردحذف