اعلان اسفل القائمة العلوية

header ads

قِصّةُ بَيتٍ مِنَ الشّعِر المستجير من الرمضاء بالنّار / بقلم رضوان مصلح

 بقلم رضوان مصلح

يَكشِفُ لنَا هذا البيتُ عن مَلحمَة تاريخية دارتْ رحاها في جزيرة العرب عُرِفتْ بحرب البسوس، جاء في مختار الصحاح للرّازي أنّ "البسوس" اسْمُ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ هَاجَتْ بِسَبَبِهَا الْحَرْبُ أَرْبَعِينَ سَنَةً بَيْنَ الْعَرَبِ فَضُرِبَ بِهَا الْمَثَلُ فِي الشُّؤْمِ فَقَالُوا: أَشْأَمُ مِنَ الْبَسُوسِ وَبِهَا سُمِّيَتْ، وهذا البيت راح مثلًا دارجًا على ألسنة العرب فيما بعد وقصته أنَّ كليبًا بنَ ربيعةَ التَغلبي، كان من خيرة فرسان بلادِ العرب، وكان شديدَ البأسِ وطويلَ القامة و عريضة الهامة وكان ذكياً قوياً أصابه الكِبرُ والعجُبُ لاحقًا بعد انتصاره على ملكٍ يمني، فصارَ يرى في نفسه العظمةَ وأنّه يستحقُ الملك على قبيلته و على قبيلة أبناء عمومته، وصار يتطلعُ إلى تنظيمِ وجمع قبيلته وقبيلة بني عمومته بدلا من العشوائية والتشرذم والفُرقة تنظيمَ الممالك في زمانهم، ولم يُعرفْ لفظ الملك عند العرب إلا قليلًا.

فراحتْ أوامره تنفذُ في قومه فلا أحدَ يُجيرُ إلا بأمره ولا أحد يرعى إلا بأمره ولا أحد يرتحل إلا بأمره، وكان قد وضع حدودًا للأرض ومنعَ كلَ من كان تحتَ إمرته من رعي إبلِهم ونوقِهم ومواشيهم واستثنى من ذلك إبلَ عمه مرةَ فقد سمحَ له برعي إبلِه لِما بينهما من نسب ومصاهرة، فكليبٌ تحته الجليلةُ ابنةُ مرةَ عمه، في هذه الأثناء نزلتِ امرأة اسمها البسوسُ جارةً عندَ جساسِ بن مرة وهي خَالته، وكان جساس فارسا شجاعا وجساسٌ هذا أخو الجليلة،... ونزل عند البسوس جارٌ اسمه سعد بن شمس وهو تاجر وسعدٌ هذا يملك ناقةً اسمها سراب ... والجوارُ عند العربِ مسألة خطيرة حساسة، بل يمكننا أن نقول كانت مسألة الجوار دينًا يدينون به وقيمة جوهرية مقدسة يفخرون بها على بعضهم البعض، فإذا نزلتُ جارًا عندكَ وطلبتُ القربَ منكَ وطلبتُ حمايتكَ، فيجبُ أن تحميَني ولو كلفكَ ذلك حياتكَ. فهذه من الأفكار التي رسختْ في ذلك المجتمع وتجذرتْ فيه.

وفي أحد الأيام نزلتْ الناقةُ (سراب) ترعى في حمى كليب عندما رأت قطعان الإبل نزلت للرعي ، فحلتْ عقالها ولحقتْ إبلَ مرةَ وكليب، فرأى كليبٌ الناقةَ بينَ مواشيه ومواشي عمه مرةَ فأنكرها (فهو يرى أنّ صاحبَ هذه الناقة قد خالف قوانينه وأوامره) وتجرأ أيما جرأة،  فأخذ كليبٌ قوسه وصوب سهمه نحو الناقة وأطلقه فأصابَ ضِرعها فولتِ الناقة يُسمعُ لها عجيجٌ وهي تنزف لبنًا ودمًا حتى بركتْ بفناء البسوس، فرأتها البسوسُ وبدأتْ بالبكاءِ والصياحِ على الناقة تقول واذلاااااه وتلطم على رأسها، ولم يتحرك أحدٌ من بني مرة لمواجهة الملكِ  كليبِ ابن عمهم وسكتوا عن ذلك، ولمّا رأت ذلك البسوس أخذتْ تشعلُ غيرة الرجال وحميتَهم وهي تنشدُ قائلة:

لَعَمْرُكَ لَوْ أصْبَحْتُ في دارِ مُنْقِذٍ * لَمَا ضِيْمَ سَعْدٌ وَهو جَارٌ لأبياتي

وَلكِّني أصبَحْتُ في دارِ منقِذٍ * مَتى يَعْدُ فيها الذئب يَعدُ على شاتي

فيا سعدُ لا تَغرُرْ بِنفسِكَ وارتَحِل * فإنّكَ في قومٍ عَنِ الجارِ أمواتِ

فتوقدتْ الحميةُ في قلبِ جساس وغضبَ لمّا سمعَ مقالةَ خالته البسوس، وأرادَ أن يثبتَ لها عكسَ ما تقول فهي نزلتْ وسعدًا جارَها  في حماية قبيلة بكرٍ القوية،  فقال لها جساسٌ اسكتي يا امرأة ليقتلنّ بسراب فحلٌ عظيم، فبلغَ ذلك كليبًا فظن أنّه يقصدُ عُليان وهو فحل عظيم من إبل كليب لم يُرى مثلَه في مضارب العرب، فقال كليب: دونَ (عُليان) خرطُ القتاد، ثمّ مضتِ الأيام، فارتحلوا جميعُهم يتتبعون مواطن القطر من السماء تحت إمرة كليب، فتلك عادة العرب فهم في حلٍ وترحالٍ مستمرين ، فنزلوا عندَ ماءٍ يُدعى (شُبيثًا) فنهاهم كليبٌ عن الشرب منه ولم يشربْ منه إلا أهلُ بيته ونوقُه هو، فالتزموا أمرَه فهو الملك، ثم تابعوا السير حتى نزلوا عند ماء يدعى (الأحص) فنهاهم كليبٌ عن الشرب منه وطردهم عنه، حتى بلغوا ماء (الذنائب) وكادوا يهلَكون من شدةِ العطشِ، فأخذَ جساسٌ رمحه و صَحِبَه بنُ عمه عمرو بنُ الحارث، ووجدا كليبًا عند الماء منفردًا، ودار بين كليب وجساس حوار وسجال حاد بين أولاد العمومة كان مآله غضبَ جساس الذي رمى رمحه فنفذ الرمح من تحت إبط كليبٍ إلى كشحه، فسقطَ كليبٌ أرضًا، فبدأ الموتُ ينازعه ويلفظُ أنفاسه الأخيرة، وعمرو بن الحارث ابنُ عم جساس كان ثالثَهما حاضرًا شاهدًا، فلمّا وجدَ حر الموت طلبَ كليبٌ  شربة ماء من جساس، فردّ عليه جساسٌ: ما عقلتَ استسقاءَك الماءَ منذ ولدتكَ أمُّكَ إلا ساعتكَ هذه!!، فالتفت كليبٌ إلى عمرو بن الحارث و طلب منه شربة ماءٍ، فنزلَ إليه عمرو بن الحارث وأجهزَ عليه، فقالتْ العربْ:

المُستجيرُ بعمرٍو عندَ كُربته  *  كَالمستجير من الرمضاءِ بالنّارِ

ويُضربُ هذا المثل لمنْ يَفِرُّ من شَرٍّ فيقعُ فيما هو شَرٌّ مِنه فيكون مثلُه مثل الشخص الذي هربَ من حرِّ الرمضاء ووقع في سعير النّار !! مفارقة واضحة تنقل لنا تجارب الأولين وحضارة عميقة الجذور، تبدأ حرب البسوس بقيام الزير سالم بعد مقتل أخيه كليب ليأخذ بثأره في واحدة من أطول الحروب القبلية وأشرسها حدثت في جزيرة العرب.



إرسال تعليق

4 تعليقات

  1. اثلجت قلبي بهذا الاسلوب المميز والمشوق. اتمنى ان لا تبخل علينا بمثل هذه المقالات وان تستمر بنشر هذه المعلومات والقصص التي تذكرنا بجمال اللغة العربية وروعتها.

    ردحذف
  2. أسلوب المقال مميز تم مزج الأدب بالقصة التاريخية باختصار غير مخل... المسألة ليست مسألة ناقة وأرض المسألة مسألة جوار وعزة وكرامة، ومسألة الجوار من المسائل التي يجب أن يسلط الضوء عليها أكثر، أحسنت الطرح بارك الله فيك أستاذنا

    ردحذف
  3. ما شاء الله عنك، أسلوب راق ومتميز،يصلح لأن يدرّس في المدارس،ليتعلم الطلاب صدق الكلمة وعذوبة المنطق،عادة تكون مثل هذه المواضيع مملة ولكن طريقة الطرح والأسلوب الفذ في العرض جعل منه موضوعًا مشوقًا ..ننتظر منكم المزيد،بارك الله فيكم وإلى الأمام

    ردحذف
  4. شكرا لكم ولتفاعلكم معنا

    ردحذف